الاثنين، 20 يونيو 2022

ابن تيمية والاستعلاء الإيماني

 كل من يقرأ لابن تيمية بعين فاحصة، خصوصا في ردوده على الفلاسفة والمتكلمين، لا بد أن يلاحظ فيه ظاهرة مميزة، ظاهرة قد تجدها عند غيره، ولكن ليس بالبروز الذي تجده عند شيخ الإسلام. ألا وهي ظاهرة: الاستعلاء الإيماني. حين يكتب ابن تيمية في سياق الرد على المخالفين، يكتب وهو في مزاج المستعلي بالحق الذي معه، الحق الذي هو الكتاب والسنة.. فلا يهاب خصومه ولا يداريهم، ولا تدهشه أقوالهم ومصطلحاتهم التي تبدو لمن يجهلها فخمة هائلة.. فكل ما سوى الكتاب والسنة يضعه ابن تيمية تحت مبضع نقده الحاد، الذي قلما يسلم منه المخالف. حين يكتب ابن تيمية في الرد على كبار الفلاسفة، كابن سينا وابن وشد بل وحتى أرسطو، فهو يكتب وهو في مقام المعتلي عليهم، لا تهيبه أقوالهم ومصطلحاتهم، فلا يمرر لهم قولا ولا يسلّم له رأيا دون أن يفحصه ويفككه ويبين مافيه من خلل وفساد.. 

يعظّم الفلاسفة والمتكلمون ما لديهم من عقليات، ويجعلونها هي الأصل الذي ينطلقون منه.. بل وصل الأمر ببعض فلاسفة الإسلام أن جعلوا  الشريعة في موضع أدنى من الحكمة والفلسفة التي لديهم، ويبررون هذا بأن الشريعة جاءت للعوام وليست هي مصيبة لذات الحق، الحق الذي لا يعرفه سوى نخبة قليلة من خواص أهل العقل والبرهان، كما يصرح بهذا ابن سينا في رسالته الأضحوية، أو ابن رشد في فصل المقال. حين رأى ابن تيمية هذا التباهي والغرور، وهذا الاحتكار المتعسف للعقل، صال عليهم صولته الشهيرة في كتابه الباذخ درء التعارض بين العقل والنقل.. فبين بحذاقة، أن ما يدعونه من عقليات قطعية هي مسائل يطالها كثير من الخلل والفساد، وأن الشرع / النقل : هو أولى بموافقة العقل الصحيح، وليس ما يدعونه من عقليات التي هي عند التحقيق جهليات. انظره وهو يقول بنَفَس الواثق: "إن كل من أثبت ما أثبته الرسول ونفى ما نفاه، كان أولى بالمعقول الصريح، كما كان أولى بالمنقول الصحيح، وأن من خالف صحيح المنقول فقد خالف أيضا صريح المعقول." ( الدرء 1 / 57  ). وفي موضع آخر من الدرء يقول: "فمن تبحّر في المعقولات، وميز بين البينات والشبهات، تبين له أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول، وكلما عظمت معرفة الرجل بذلك، عظمت موافقته للرسول."


هذه الثقة في الوحي، جعلت شيخ الإسلام ينظر إلى كل ما سوى الكتاب والسنة نظرة الفاحص والناقد. من هنا كان شيخ الإسلام من أوائل من برعوا في نقد المنطق، هذا المنطق الأرسطي الذي انبهر به كبار الفلاسفة والمتكلمون.. فلم يغتر ابن تيمية بما قيل عن قوة المنطق وإحكامه.. لذلك كشف ببراعة قل نظيرها، عن كثير من الخلل في أصل مباحث المنطق، ووجه نقودات محكمة سبق بها كثير من فلاسفة الغرب المحدثين من ديكارت وبيكون وغيره.. هذا الاستعلاء الإيماني عند شيخ الإسلام، وهذه الثقة في الكتاب والسنة وعدم التسليم بكل ما يخالفهما؛ نتج عنه تراث نقدي هائل، يدرّس الآن في أرقى جامعات العالم.. ولا زال هناك متخصصون من الشرق والغرب إلى اليوم يحفرون في تراث هذا الرجل ويبينون مواطن عبقريته وذكائه.


هذه السمة في ابن تيمية، يجب أن يتحلى بها كل مسلم اليوم. يجب على المسلم أن يثق بعقيدته ويتشرف بها ولا يخجل من شيء فيها.. هذه العقيدة هي وحي منزل، وشريعة إلهية هي آخر الشرائع وأحسنها.  ومن العجب أن تجد الإنسان الغربي اليوم، يفخر بعقيدته ويروج لها ولا يستحي منها، مع أن عقيدته من أفسد العقائد وأحطها، عقيدة تنتشر فيها الإباحية ويشيع فيها الانحلال، عقيدة تروج لزواج الرجل من الرجل والمرأة من المرأة، بل هي تناقش حتى نكاح الإنسان مع الحيوانات.. تخيل أن ثمة من يتأوّل الشرع لأجل أن يوافق هذه العقائد الفاسدة.. بل منهم من ترك الشرع بالكلية واعتنق هذه المذاهب.. وأحسب أن أمثال هؤلاء لا ينقصهم نقاش جدلي يدلهم على الحق، ولا رداً على شبهة يُظن أنها سبب انحرافهم. مشكلتهم في المقام الأول هي استلاب نفسي واهتزار في الثقة.. ولو استحضر هؤلاء فكرة أنهم يتبعون وحيا منزلا وشريعة إلهية هي أعظم الشرائع، لزال عنهم هذا الضعف ولتبين لهم:  "أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول" كما قال شيخ الإسلام رحمه الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق