الاثنين، 12 أغسطس 2019

الحزن هو الأصل

-حين هبط آدم إلى الأرض، كان الحزن يعتريه، لقد ابتعد عن ربه وعن الجنة وحواء.. في الأرض، كان الحزن أول شعور يصيب الإنسان.

-في الفرح نحن نفرح مع آخرين، أما في الحزن فنحن نحزن وحدنا.. الحزن اقترابٌ من الذات وعودٌ إلى الأصل.

-حين تقرأ قصيدة حزينة أو نصا حزينا تشعر أنه يمثلك ويعنيك، تشعر أنك أنت قائله، الحزن هو أكثر شعور مشترك بين الناس.

-تستجدي الفرح ولا يأتيك، ويهبط عليك الحزن سريعا لأتفه سبب.. ذلك أن الحزن هو الأصل، وكل شعور آخر هو محاولة تعزية.

-‏كل شيء يقودك إلى الحزن، وأحيانا يكون اللاشيء سببا كافيا لحزنك، إنها عودة إلى الأصل واشتياق لأول شعور.

-تحزن حين تتذكر أشياء محزنة، وتحزن أكثر حين تتذكر أشياء سعيدة، كل الذكريات حزينة، ولا مفر من الحزن، كما أنه لا مفر من ذاتك.

-حين يحزن الإنسان يشعر بالهشاشة والضعف، ذلك أنه يعود شيئا فشيئا إلى أصله: هشاشة الطين!

-الحزن يمنح صاحبه هالة من القدسية، إنك تشعر بالوقار أمام كل حزين، وكأن صورة آدم الأولى تتمثل أمامك.

ملكة الذائقة

الذائقة ليست ملكة فوضوية لا تخضع لمقاييس ومعايير تضبطها، والمقولات التي تقرر بأن أذواق الناس مختلفة وبالتالي لا يجب أن تُنقد، تطبّع من حيث لا تعلم مع الأذواق الرديئة، هذا مع الأخذ بالاعتبار أن مقولة "الذوق الرديء" مقولة خاطئة بحسب تبعات قولهم، نظرا لغياب المعايير التي تميّز الذوق الجيد من الرديء. والحقيقة أن الذائقة ملكة لها قوانينها الخاصة بها فيصح أن يقال أن هذا ذوق جيد وهذا ذوق رديء. لكن هنا يبرز سؤالان ضروريان: من له الحق بالحكم على أذواق الناس؟! وما هي المعايير التي يحتكم إليها الذوق؟!
 معلوم أن هذه القضية مطروقة في الفلسفة وبالتحديد في المبحث الجمالي، الذي يحاول الإجابة عن أسئلة من قبيل: ماهو الجمال؟! وكيف أحكم على الشيء بأنه جميل أو قبيح؟! وهل الجمال نسبي؟.
أولا هل الجمال نسبي؟ برأيي أن الإجابة  نعم ولا في نفس الوقت. الجمال نسبي في بعض جوانبه، فمثلا قد تختلف الثقافات والشعوب في نظرتها إلى الشيء الجميل وربما تختلف الثقافة نفسها بحسب مراحلها التاريخية واختلاف ظروفها. وبالتأكيد تختلف معايير الجمال من مجال إلى آخر، فكل حقل له معاييره الجمالية التي تضبطه. ولكن هذا لا يعني بالتأكيد أن الجمال نسبي بصورة مطلقة بحيث نجعل كل فرد من الناس له معاييره الجمالية الخاصة به، إذا قلنا بهذا فإننا نهدم معنى الجمال من الأساس فكل شيء يحتمل أن يكون جميلا وقبيحا في نفس الوقت، وهذا واقعيا غير صحيح.
ثمة أشياء كثيرة لا خلاف على جمالها أو أن الخلاف فيها شذوذ غير معتبر. فمثلا قصائد المتنبي، لوحات ليوناردو دافنشي (ولو أني لا أملك الحس الفني لكن ثمة اتفاق بين المتخصصين بجمال لوحاته)، أغاني أم كلثوم، روايات جورج اورويل. وبعيدا عن المجال الفني ثمة إجماع على جمال الورود ومنظر المروج الخضراء وشكل الغيم المتعانق في السماء. كل هذا يهدم مقولة: الجمال نسبي بصورتها المطلقة.
لكن السؤال المهم : من هو المخول بالحكم على جمال الشيء وقبحه؟ أو بمعنى آخر من هو صاحب الذوق الرفيع الذي يُتحاكم إليه؟ طبيعي أنه ليس كل أحد يحق له تقييم أذواق الناس والحكم عليها وإلا وقعنا في نسبية أخرى. ولكن من المعلوم أن في كل مجال ثمة خبراء نابهون عاشوا فيه وخبروه، هؤلاء نمت ذائقتهم وتطورت مع الممارسة والتجربة، إن قولنا هنا نمت الذائقة وتطورت يدل مباشرة على أن ثمة قانون تخضع له الذائقة وإلا فكيف تنمو وتترقى؟. ثمة خبراء في المجال الفني، وخبراء في الأزياء، وخبراء في العطور...إلخ ، هؤلاء هم من يحق لهم -كل في تخصصه-  الحكم على هذه الذائقة أو تلك، ويحق لهم القول أن هذا شيء جميل وهذا قبيح .
أما السؤال عن المعايير التي تخضع لها الذائقة، فهذا سؤال لا يمكن الإجابة عنه لأن كل مجال له معايير ومقاييس خاصة به يتفق عليها المتخصصون. نعم ربما لا تُدرك معايير الجمال بصورة عقلية واضحة لكن هذا لا يعني أنها غير موجودة، فثمة أشياء تُدرك بالحدس لا بالعقل وهي مع ذلك محل إجماع. 

بنية الثورات العلمية لتوماس كون

حينما يتخلخل النموذج الإرشادي الذي يؤمن به العلماء على إثر نظرية ثورية جديدة لم يعهدها العلم من قبل، يفقد العلماء الثقة في العلم التجريبي ككل ويبدو لهم العالم -باعتبار العلم منظارا له- غريبا وغامضا وغير قابل للضبط. نقل توماس كون حالة الشك التي أصابت ولفغانغ بولي العالم الفيزيائي الشهير مع بدايات ثورة ميكانيكا الكم حيث قال:
"إن علم الفيزياء في هذه اللحظة مشوش بصورة مرعبة، وعلى أي حال، لقد كان الأمر صعبا علي إلى حد كبير ، حتى أنني تمنيت لو أنني كنت ممثلا سينمائيا هزليا أو ماهو من هذا القبيل ولم أسمع في حياتي عن علم الفيزياء" .
يحاجج توماس كون في كتابه الثوري هذا بأن العلم لا يسير -كما هو شائع- بطريقة خطية وتراكمية، ولكن التقدم العلمي هو حصيلة انقطاعات وثورات تحدث للنماذج الارشادية، فيُهدم نموذج إرشادي قديم ويحل محله نموج إرشادي جديد.
النموذج الإرشادي أو البرادايم بحسب توماس كون هو مجموعة من القواعد والقوانين والنظريات التي تضبط طرق البحث لدى العلماء وتتحكم بنتائجهم، فالبرادايم بمثابة الإطار المعرفي الذي ينضوي تحته العلماء. هذه البرادايمات تختل أحيانا على إثر أزمات ومشكلات لا يجد العلماء حلا معها من هنا تبزغ نظريات جديدة تخالف البرادايم القديم وتمهد لظهور برادايم جديد يعد بحل أكبر قدر من المشكلات.
العلم بحسب كُون إذن ليس حقلا محايدا وموضوعيا بل هو يشابه العلوم الإنسانية الأخرى من حيث اعتماده على نماذج معرفية تتحكم بعقلية العلماء توجههم، فللعلم تقاليده الخاصة التي يعمل من خلالها. كذلك ينقض كون فكرة أن العالِم باحثٌ موضوعي يسير في فضاء مفتوح ومتجرد نحو الحقيقة، بل هو خاضع لبرادايم محدد يحاول من خلاله جر الواقع ليتطابق مع هذا البرادايم، فالعلماء كما يقرر توماس كون يدفعون الطبيعة قسرا لتتوافق مع نموذجهم الارشادي!
تنبع أهمية هذه الأطورحة من أن توماس كون سلط الضوء على الجانب اللاعقلاني في العلم، فالعلم في أحد جوانبه يشبه الأيدلوجيا، خصوصا في زمن الثورات العلمية حين يبزغ نموذج جديد يؤمن به ثلة من العلماء ويعارضه آخرون متمسكين بنموذجهم القديم، يورد توماس كون أمثة كثيرة على مثل هذه الصراعات التي تنتهي بانتصار نموذج على آخر. ترفض أطروحة كون التأليه الحاصل للعلم والنظر إلى نتائجه كحقائق مطلقة وإلى العلماء كباحثين عن الحقيقة . لكن مع ذلك يقر كون بأن المنهج العلمي أدق من غيره وأنه يتطور بشكل أوضح من المجالات الأخرى وذلك لاعتبارات كثيرة لخصها كون في فصله الأخير من الكتاب .

القراءة كعلاج للشك

حين تكثر القراءات تزداد الشكوك وتتضخم الأسئلة، يلهث القارئ باحثا عن أجوبة وما إن يقترب حتى تتبدى له أسئلة أخرى يقف حائرا أمامها، ومن هنا ينشأ الاضطراب والتشتت، هذه الدوامة اللامنتهية يمكن تحاشيها لو ضبط القارئ من الأساس مفهومه للقراءة.
إن هذه الإشكالية تنبع في البداية من فهم خاطئ لعملية القراءة باعتبارها عملية سحرية قادرة على مواجهة جميع الشكوك وحل جميع الملابسات. 
القراءة في الحقيقة ليست كذلك بل هي مجرد تدريب فكري مهمته الأولى صقل العقل وتعميق الوعي وتوسيع المعرفة، أما من يفهم القراءة كأداة تكشف الحقائق وتبحث عن اليقين فإنه قطعا سيكون عرضة للأفكار المتناقضة وبالتالي عرضة للشك الدائم والحيرة اللامنتهية.
علينا بدلا عن هذا أن نقرأ الكتب قراءة شاعرية، في الشعر نحن لا نلتفت إلى المضمون الفكري للقصيدة ولا يهمنا عقيدة الشاعر وتوجهه، فالغرض من قراءتنا للشعر هو استقصاء الجمال والبحث عن المعنى البديع والمطرب بعيدا غلط الفكرة وصوابها. هذه القراءة الشاعرية يمكن أن نقرأ بها الكتب الفكرية، حين نركز لا على الأفكار في ذاتها ولكن على المناهج والأساليب التي أبدعت هذه الأفكار. أن نقتبس الأدوات الفكرية التي بنى بها المفكر قناعاته، من غير أن نقتبس ذات القناعات. بمعنى آخر إن ما يهمنا طريقة تفكير المؤلف لا أفكاره.
فمثلا حين نقرأ للجابري ليس شرطا أن نقتنع بتحليلاته النهائية للعقل العربي، بل إن النظر إلى النتائج التي خلص إليها الجابري قد يجعلنا نحكم عليه بالتهافت، فتقسيمه التعسفي للعقل العربي وتقديمه العقل البرهاني كحل سحري والقول بالقطيعة المعرفية بين المغرب والمشرق كلها دعاوى نُقد من أجلها الجابري بشدة، لكن برأيي لا تكمن أهمية الجابري في هذه الأحكام والتقريرات بل في منهجه غير المسبوق في دراسته للتراث، وفي النظريات الحديثة التي استدخلها في بحثه بطريقة منسجمة وغير متكلفة، وأيضا في الجهاز المفاهيمي الذي وظفه في خدمة مشروعه، هنا تكمن عبقرية الجابري وهنا يمكن الاستفادة منه.
إن ضبط مفهوم القراءة على هذه الشاكلة يجعلنا في مأمن من تشعب الأفكار والمعتقدات وتشتتها. أما الشكوك التي تعترضنا من فترة إلى أخرى فلا بأس أن نركنها جانبا، فبعض الشكوك لا نكون مؤهلين لمواجهتها وقد يأتي يوم ونكون كذلك. بل ربما من المفيد أن نعتاد على فكرة التعايش مع بعض الشكوك، فليس لكل سؤال جواب قاطع ومريح، وعملية البحث عن أجوبة لكل سؤال متشكك عملية مرهقة وغير منتهية، لا يوجد في رأيي من يخلو من بعض الشكوك والارتياب بل إن جوهر الإيمان يقتضي أن يكون ثمة أمر مغيب عنا، ومن هنا يكون امتحان الإيمان الحقيقي .

الأربعاء، 20 فبراير 2019

قصور الاستشراق منهج في نقد العلم الحداثي

قصور الاستشراق منهج في نقد في العلم الحداثي كتاب المفكر الفلسطيني الأصل وائل حلاق أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولمبيا .صدر الكتاب في أواخر العام الميلادي الفائت من الشبكة العربية للأبحاث والنشر وبترجمة بارعة تستحق الشكر من الدكتور عمرو عثمان مترجم الدولة المستحيلة لنفس المؤلف. ينطلق وائل حلاق في كتابه هذا من نقد كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد نقدا لاذعا لا يعرف الرأفة  يستحوذ هذا النقد على أغلب أجزاء الكتاب الأولى لكن رغم هذا لم يكن نقد سعيد هو الغرض الأساسي من الكتاب لكن وائل حلاق استخدم كتاب الاستشراق كذريعة لنقد المشروع الحداثي ككل.
يبدأ حلاق في سرد المآخذ المنهجية التي وقع فيها إدوارد سعيد ويذكرنا قبل هذا بأن تخصص سعيد كناقد أدبي ربما أفقده الحس التاريخي الذي يتطلبه تناول موضوع من هذا النوع.
من الإشكاليات الكبيرة التي وقع فيها سعيد أنه نظر إلى الاستشراق كخطاب عابر للتاريخ لا يتأسس على أرضية صلبة ومحددة بل كان تأسيسه يرتكز على مجموعة نصوص لمؤلفين/ مستشرقين أفراد كانت لنصوصهم سمات خاصة ومتجانسة شكلت هذا الخطاب الاستشراقي. لم يدرك سعيد بحسب حلاق الجذور الحقيقية للاستشراق فاعتبر أن مجرد تناول كمية كثيفة من النصوص كفيل بأن يكشف بنية الاستشراق وحقيقته . وبتوظيف مفهوم فوكو  للخطاب وعلاقته بالسلطة بنى إدوارد سعيد أطروحته كاملة على هذا الأساس.
أول إشكالية نتجت عن هذا الطرح هي أن ادوارد سعيد صبغ جميع المستشرقين  صبغة واحدة، إن لفظة مستشرق في طرح سعيد تشمل ايسخيلوس اليوناني مرورا بدانتي ووصولا إلى برنارد لويس في ذات المستوىيعتقد حلاق أن هذا الخلل كان أثرا ناتجا عن خطأين منهجيين وقع فيهما سعيد.
أولهما غياب نظرية واضحة للمؤلف، مع أن ادوارد سعيد ذكر أنه يخالف فوكو في نظرته للمؤلف باعتباره مسلوب الإرادة وخاضعا خضوعا تاما للخطاب السائد، وأكد مراعاته للبصمة المحددة لأفراد المؤلفين . لكنه عمليا وفي ثنايا طرحه يختفي هذا التنظير فيصبح المستشرقون شكلا واحدا لا خصوصية لهم فالمؤلف ميت ومن يتحدث هو خطاب تشكل وفق علاقات القوة . يذكر حلاق أن سعيدا اضطر إلى هذا التعميم المخل بسبب افتقاره إلى نظرية فوقية ناظمة ‏يمكنها أن تستوعب تلك التمايزات والاختلافات بين أفراد المستشرقين .
الخطأ المنهجي الثاني الذي نتج عنه هذا التعميم  كان بسبب عدم وضع الاستشراق في مكانه الصحيح، لم يلتفت سعيد للأسباب القبلية التي جعلت الاستشراق ممكنا من الأصل، بمعنى آخر لم يلتفت سعيد إلى التربة الحداثية التي نبت فيها الاستشراق. لذلك عمل سعيد على ديمومة الاستشراق ولا نهائيته باعتباره خطابا يشتبك مع السلطة وتُنتج من خلاله تصويرات مسيئة ومشوِّهة للشرق من أجل الهيمنة عليه . يعتبر حلاق هذا التفسير السياسي سطحي وقاصر عن تفسير  السبب الحقيقي لبزوغ الاستشراق  كظاهرة استثنائية حديثة لم يعرفها التاريخ الانساني من قبل. يتساءل حلاق لماذا لم يظهر الاستشراق في التاريخ الإسلامي مثلا أو الصيني رغم الهيمنة العسكرية والاقتصادية والسياسية ‏التي كانت لهما. يقرر حلاق أن المشروع الحداثي الغربي هو الأساس الذي تفرع منه حقل الاستشراق مثلما تفرعت منه الحقول العلمية الأخرى، ومن الخلل اتهام الفرع دون النظر إلى الأصل الذي انبثق منه .
يأخذ حلاق على سعيد إيمانه بالقيم العلمانية والإنسانوية رغم نقده للاستشراق وللظاهرة الكولونيالية. بحسب حلاق لم يكن إيمان سعيد هذا إشكالا ثانويا لا تأثير له، لكنه في الواقع تسبب بأكثر من خلل منهجي أثر على أطروحة سعيد بكاملها. فبمجرد تناول الاستشراق في معزل عن المفاهيم الحداثية التي بُني عليها يُعتبر تناقضا فادحا لا مبرر له، وإن كان سعيد يشير أحيانا إلى أثر الثقافة الغربية في نشأة الاستعمار لكن تظل هذه الإشارة عابرة وعائمة بحسب حلاق  خصوصا وأن سعيدا يفصح في مواضع أخرى بتبنيه القيمَ العلمانيه والليبرالية المنبثقة من فكر الأنوار ومقته الافكارَ القائمة على مفاهيم دينية وروحية.
‏فيعتبر سعيد أن كل تصوير للشرق لا يوافق القيم التي يؤمن بها يعتبر تصويرا خاطئا ومسيئا للشرق. فمثلا حين نظر المستشرقُ الفرنسي ماسينيون إلى الشرق نظرة إيجابية بل وإعجاب شديد حيث وصفه بالشرق المتدين القائم على مفاهيم روحانية، اعتبر سعيدٌ هذا الوصف مسيئا للشرق ومنطلقا من نظرة دونية إليه. ‏تبرز هنا مشكلة أخرى لم يذكرها وائل حلاق في كتابه ولكن تحدث عنها نقاد آخرون منهم صادق جلال العظم، فسعيد لم يحدد أساسا الجوهر الحقيقي للشرق الذي يراه هو . بل إنه ينطلق من فرضية تقوم على أن كل تصوير للآخر هو بالضرورة إساءة تصوير، فبحسب سعيد “كل تصوّر يختلط حكما بأشياء كثيرة غير الحقيقة ، مع العلم بأن الحقيقة نفسها هي تصور ليس إلا” ! من هنا يحق لنا أن نتساءل: ألا يعني هذا التبرير لنظرة المستشرقين إلى الشرق وإلى الإنسان الشرقي باعتبارها نتيجة حتمية لكل عملية تصور للآخر؟!.
نظر سعيد إلى الاستشراق كحقل أكاديمي شذ عن الحقول الأكاديمية الأخرى وبالتالي عن القيم الليبرالية والعلمانية . على عكسه يعتبر حلاق كل الحقول الأكاديمية الأخرى متورطة بذات المفاهيم الاستعمارية التي يعمل من خلالها الاستشراق. فالعنف والإبادة الجماعية والاستعمار والمشاكل البيئة كلها آثار ساهمت بها الأكاديميا الغربية وعملت على عقلنتها والتبرير لها. من هنا ينتقل حلاق إلى نقد النموذج المعرفي الذي يقوم عليه العلم الحداثي ككل، ذلك العلم الذي يتأسس بنيويا مع مفهوم السيطرة السيادية. هذه السيطرة التي عملت ابتداء على فصل القيمة عن الطبيعة. فبما أن الطبيعة مادة غاشمة وهامدة فيمكن أن يُتعامل معها دون قيد أخلاقي، أي يُتعامل معها كشيء يخضع دائما للفعل وللاستغلال والسيطرة دون مراعاة للبعد القيمي. نتج عن هذا التعامل ظهور مايسمى العلم الموضوعي المحايد في كل الحقول الأكاديمية -بما فيها حقل الاستشراق- هذه الحقول جعلت الباحث ينظر إلى الموضوع  -حتى لو كان هذا الموضوع مجتمعا إنسانيا - كما ينظر إلى مادة طبيعية يستغلها ويستعملها كما تستعمل الاشياء. 
ينتهي حلاق في فصله الأخير إلى فكرة إعادة صياغة ‏ الاستشراق فكما أن الاستشراق في السابق كان جزءا أصيلا من المشكلة فيمكن أن يكون جزءا من الحل ولكن بعد تأهيله وبنائه على أسس جديدة غير التي قام عليها قديما. ‏فنظرا لطبيعة الحقل الاستشراقي واشتباكه مع ثقافة الشرق وتراثه فبإمكانه تقديم مساهمة قيّمة للخروج المأزق الحداثي المادي بالاستفادة من الفلسفات الروحية والقوانين الأخلاقية التي تقوم عليها أسس الثقافة الشرقية.  
يوظف حلاق في أطروحته جهازا مفاهيميا ضخما يبدأه باقتراح نظرية جديدة للمؤلف تعالج قصور نظرية موت المؤلف التي عمل من خلالها إدوارد سعيد والتي عجزت عن تفسير التمايزات والاختلافات بين أفراد المستشرقين، ثم يموضع هذا المؤلف الجديد داخل نظرية النماذج وداخل مفهوم النطاقات المركزية والهامشية الذي يستعيره من كارل شميت، ويستفيد كذلك من مفهوم جون أوستن لشروط الملاءمة المنتجة لأفعال الكلام. ولا يبتعد كثيرا عن منهج فوكو الأركيولوجي في نظرته العمودية للخطابات التي تحفر في الترسبات الثقافية إلى أن تجد الأرضية المشتركة التي تنبثق منها شتى الخطابات. يفعل حلاق كل هذا داخل حبكة فكرية متقنة تُظهر الكتاب بشكل منهجي قوي ومتماسك. 
رغم أن وائل حلاق يستعير كثيرا من أفكار ونظريات نقاد مابعد الحداثة، إلا أن منطلقاته الفكرية تختلف نوعا ما عن المنطلق العدمي الذي يسير عليه أولئك النقاد. فحلاق مفكر أخلاقي في الأساس وهو لا يرفض الدين بالكلية، بل إنه يرى أن الدين بما فيه من روحانيات وأخلاقيات قد يكون الحل المناسب للخروج من المنطق الحداثي المادي الذي يهيمن علينا اليوم. وهذا بالتحديد سبب إعجابه بالشريعة الإسلامية -وهو مسيحي الديانة، فهو يعتقد أن الشريعة الإسلامية تنطوي في بنيتها على معايير أخلاقية وروحية تضبط حركة الأفراد والجماعات والمؤسسات. بعكس الحضارة الغربية المعاصرة التي تسيّرها مفاهيم الهيمنة والمصلحة والربح دون قيود أخلاقية ضابطة.