الثلاثاء، 24 أغسطس 2021

الأنا الطفولية

 في صميم النزعة الفردانية توجد نزعة طفولية متدثرة. يرى الطفل العالم كشيء تابع له، كأحد ممتلكاته. العالم من منظور الطفل ليس سوى امتداد لذاته، فلا وجود مستقل للأشياء والآخرين، وكل ما هنالك مسخر له وموجود ليحقق رغباته، من هنا نفهم امتعاض الطفل واستغرابه حين لا تسير الأمور كما يريد. في المقابل تتبنى الفردانية هذه القيم صراحة أو ضمنا. فمن وجهة نظر الفلسفة الفردانية، العالم الجدير بالاهتمام هو عالم الفرد، فقيمة الفرد فوق كل اعتبار، فوق الأديان والجماعات والأعراف. إن الحق الوحيد هو ما يراه الفرد كذلك، فلا حقيقة تفرض عليه ولا التزام ينبغي أن يلزم فيه، فغاية وجود الفرد هي الاستماع وإشباع الرغبة، تماما كما هي غاية الطفل. وإن وضعت الفردانية لنفسها بعض القوانين فهذا لا يعني أنها اجتازت مرحلة الطفولة لتصل إلى مرحلة الرشد، فالواقع أن دافعها الوحيد هو حماية نفسها، فقاعدتها الشهيرة "أنت حر ما لم تضر"، لا تهدف إلى حماية الآخر، ولا إلى حماية القيم والأخلاقيات العامة، بل الهدف منها هو حماية ذاتها فقط. لذلك لا يعنيها أن تقترف أمرا تؤذي به الآخرين أذى معنويا. فحدود الأذى عندها هو الأذى المادي، أي الأذى الذي يهدد إشباع ملذاتها. من هنا فحالة الرشد الوحيدة التي بدت عليها جاءت لتحافظ فيها على طفولتها.!

الموضوعية الرسالية

 ‏كثيرا ما نسمع دعاوى شهيرة ومتضاربة حول قيمتي الموضوعية والرسالية، فنجد طرحا يطالب بالموضوعية ويذم طغيان التناول الرسالي، والعكس كذلك فثمة طرح آخر لا يرى الرسالية تهمة بل قد يعتبر الموضوعية في بعض الحالات هي ما يجب أن يُذم. والحقيقة أن كلا الطرحين فيهما من اللبس والغموض مما يجعلنا نضطر إلى تفكيك هذه المفاهيم والدعاوى حتى يتضح موطن الإشكال في النهاية. 

‏أولا هناك مفترضات قد يُغفل عنها عادةً عند الحديث عن الموضوعية والرسالية، إذ معنى الموضوعية في الأصل يقوم على افتراض أن هناك ذاتًا مستقلة تقابل موضوعا منفصلا عنها، وبالتالي تتعامل معه على هذا الأساس،  ومن هنا يأتي غلط من يدعو إلى موضوعية مجردة، إذ يعتقد أنه من الممكن أن يتناول المرء الموضوعات وهو يقف على حياد تام بالاستقلال عنها، وبالتالي يزعم أن حكمه سيظهر في هذه الحالة خالٍ من شوائب الذات. هذا الافتراض تعرض لنقد قوي مع الفلسفات المعاصرة، فهيدغر مثلا يرفض هذه الثنائية من الأساس، أي فكرة الذات المنعزلة التي تدرك الأشياء وهي بعيدة عنها، يقول هيدغر "في التوجه نحو، والإدراك، لا يذهب الدّازين ( الوجود الإنساني) لأول مرة خارج دائرته الباطنية حيث يكون مودعا كما في كيس منذ البداية، بل هو طبقا لنمط كينونته الابتدائي يوجد دوما "في الخارج" لدى كائن ملاق له من العالم المكتشَف بعدُ في كل مرة" (هيدغر الكينونة والزمان ترجمة المسكيني ص 144 ). لكن بعيدا عن هذه الاشكالية التي يمكن تجاوزها مع أهميتها، ثمة طرحٌ تبسيطي للمسألة يزعم أن الموضوعية ببساطة، هي أن تصف الشيء كما هو، فمثلا لو رأيت الجو ممطرا، ثم نطقت: الجو ممطر. فأنت هنا نطقت بوصف موضوعي يصف الواقعة كما هي. بينما لو قلت: الجو جميل. فسيقال لك أن هذا الوصف ذاتي وغير موضوعي، إذ يعبّر عن انطباعك عن الموضوع (الجو )، وبالتالي ينتج عن هذا القول بأن الموضوعية ممكنة بمعنى وصف الشيء كما هو. 

‏المشكلة في هذا التفسير التبسيطي أنه يغفل عن كون هذه الأمثلة التي يوردها هي امثلة غير مركبة، وتتحدث عن وقائع بسيطة. بينما حين يتحول الطرح إلى مسائل أكثر تعقيدا من واقعة "الجو ممطر"  ، كالقضايا الفكرية والعقدية والثقافية، سيختفي هذا الوضوح ويختلط الذاتي بالموضوعي على نحو حتمي. فعلى سبيل المثال يستحيل عليك أن تتناول موضوعا في مسألة تراثية، دون أن تقع بتحيزات من نوع ما. وهذه التحيزات لا يمكن تجنبها، لأن التراث ومسائله هو جزء مكوِّن من ذهنيتك وثقافتك وتاريخك، وبالتالي هو جزء من وعيك ولا وعيك على السواء، من هنا يكون الانحياز في تناول مثل هذه المواضيع المعقدة حتميا وخفيا في آن. وقل مثل هذا في تناول المواضيع الثقافية او الفكرية الأخرى.

‏ومن الفلاسفة الذين يعتقدون هذا الرأي، الفيلسوف الألماني جورج غادامير، إذ ينفي غادامير إمكانية الوصول إلى حالة موضوعية مجردة، ويعتقد أن المرء في تناوله لأي موضوع لا بد ان ينطلق من أحكام مسبقة وافتراضات محددة وتوقعات منتظرة، وهذه كلها أمور لا يمكن تحييدها، إذ هي تشكل عملية الفهم نفسه، وبدونها لا يحصل الفهم أصلا. "لكي  يفهم المرء ينبغي أن يفهم سلفا، أن يكون لديه موقف. استباق. سياقية. فالمرء لا يسعه أن يعرف إلا ما هو مؤهل لمعرفته". ( فهم الفهم عادل مصطفى ص11) ولتوضيح هذه المسألة تخيل أنك تأتي إلى موضوع ما وأنت خالٍ من أي حكم أو قناعة أو افتراض حول هذا الموضوع، ففي هذه الحالة أنت لا تستطع فهم هذا الموضوع من الأصل، فضلا عن أن تصفه أو تصدر حكما عليه. من هنا يتبين لنا خرافة الموضوعية المجردة والحياد التام. 

‏لكن هل معنى هذا أن ننفي هذه القيمة بالجملة، ولا نراعيها في أبحاثنا وأحكامنا؟ الحقيقة أنه لا يلزم من هذه النتيجة أن ننبذ مفهوم الموضوعية كليا، بل يمكن القول ان الموضوعية قيمةٌ مثالية، مثل كل القيم المثالية الأخرى، فمع علمنا أن القيم المثالية لا يمكن تحصيلها على التمام، إلا أنه لا يمنع من تلمس هذه القيم ومقاربتها ومحاولة الوصول إلى درجة مُرضية منها، كقيمة العدل مثلا، فمع إدراكنا أن العدل المطلق لا يمكن أن يتصف به المرء، إلا أننا لا  ننبذ هذه القيمة ونكون ظالمين بحجة أنه من الصعب الوصول إلى العدل المطلق. وكذلك الأمر مع الموضوعية، إذ من المهم أن يراعي الباحث وصاحب الراي الموضوعية ويحاول الوصول إلى حالة مُرضية منها مع وعيه بحتمية تحيزاته.

‏عودا على جدل الموضوعية والرسالية، من المهم أن تُطرح بعض التوضيحات التي ربما هي من باب المجمع عليه، لكن ذكرها ضروري حتى لا تلتبس الدعاوى . إنه من البدهي أن يُقال ، أن ثمة مقامات في الكلام بناء عليها تتأسس مشروعية مطلبيْ الموضوعية والرسالية. فثمة مقام يكون فيه المتكلم أو الباحث، في مقام الإفصاح عن الرأي وتوضيح حقٍ ما أو كشف باطل، ففي هذه الحالة من المعيب أن ننتقد هذا المتكلم بدعوى أنه لم يكن موضوعيا في طرحه، إذ في هذا المقام يعي المتكلم أنه يؤدي رسالة معينة تحتمها عليه عقيدته أو مرجعيته، وليس المقام مقام حياد أو وصف موضوعي. كذلك قد يكون المتكلم في مقام آخر، ليس مقام الإفصاح عن الراي، إنما مقام الوصف وعرض الأفكار كما هي، ففي هذه الحالة تأتي قيمة الموضوعية كمطلب مشروع، بل ضروري، إذ يُستحسن هنا الحياد وتحري الدقة في وصف ذلك الموضوع، ومن الغلط اتهام الباحث في هذه الحالة أنه يلمّع هذا الموضوع أو يدعو إليه في مقام يتطلب منه الوصف والانصاف.

‏لكن مع هذا فكلامي أعلاه قلما يثير الجدل ( أو هكذا أظن)، إذ من المتفق عليه عند الطرفين (أي دعاة الموضوعية ودعاة الرسالية) أن الموضوعية والرسالية كلاهما لا يُستغنى عنه . إنما غالب الجدل يُثار حول كيفية ممارسة هذه الموضوعية أو الرسالية، أو بتعبير آخر فأغلب الجدل يكون حول ما يمكن أن أسميه: "الجرعة الزائدة" من الموضوعية أو الرسالية. وهي جرعة سلبية بلا شك.

‏أولا في حالة الجرعة الزائدة من الموضوعية، قد يتحول المرء إلى شخص محايد في أغلب الحالات، إذ يختفي من كلامه وأبحاثه طابع الأحكام التصويبية والقيمية المعبرة عن آرائه ومعتقداته، فيضخم من قيمة الموضوعية ويقلص من مساحة الحكم حول ما يطرح، إلى درجة يُشك فيها أنه يملك رأيا حول ما يطرح. وهذا لا شك أمر مرذول من ناحية شرعية ومن ناحية أخلاقية أيضا، إذ المسلم مطالب بأن يُظهر الحق الذي يعتقده ويصدح به، ويرفض الباطل وينبذه، لا فقط أن يصفه دون أن يحكم عليه. وهذه الموضوعية المتطرفة هي لا شك تحمل نفَسا حداثيا غربيا لا يعرفه تراثنا الاسلامي. ففي الحداثة تم التمييز بين "ما هو كائن" وما "ينبغي أن يكون"، وبالتالي يُطالب الباحث عادةً بأن يهتم "بما هو كائن" ويتجاهل عمّا "ينبغي أن يكون". فيلزم من هذا عزلُ القيم الأخلاقية والأحكام المعيارية عن الموضوع، ويُنظر إليه كما هو دون حكم أو رأي حوله. يقول وائل حلاق: "في التراث الإسلامي قبل الحديث، كان "ماهو كائن" وما "ينبغي أن يكون" أي الحقيقة والقيمة الشيء الواحد نفسه، ولم يكن التمييز قائما كما هو في العالم الحديث " (الدولة المستحيلة ص162 ) .

‏أما عن الجرعة الزائدة من الرسالية، فهي أمر واقع للأسف وليست مجرد دعوى. فالبعض تحت عباءة الرسالية يمارس الإجحاف والافتئات على خصومه والمخالفين له، فيصفهم بما ليس فيهم دون إنصاف وعدل. والبعض قد لا يفعل هذا ولكن قد تنقصه الحكمة في حالات أخرى، كأن تطغى الرسالية في مقامٍ يُراد منه توضيح الفكر ووصفه، إذ يحصل في هذه الحالة  ألا يَظهر الموضوع إلا على اعتباره مجرد انعكاس لآراء المتكلم ومعتقداته، ولا تكاد تعرف الموضوع على حقيقته. وبالتاكيد لا بأس من الرد على الأفكار والآراء الباطلة، لكن إن كان المقامُ مقام تعريف للموضوع، ففي هذه الحالة يُطلب الحياد والإنصاف، لا الرد والهجوم. من هذا يتضح أن ليس ثمة تضاد بين الموضوعية والرسالية، وأنه من الممكن -بقدر من التوازن والحكمة والتمييز بين المقامات- أن تقوم موضوعية ورسالية في آن، وليس موضوعية أو رسالية، على اعتبارهما ضدين. وتبين كذلك عند التدقيق، أن الطرفين - دعاة الموضوعية ودعاة الرسالية- في الغالب ليس لديهما مشكلة مع هاتين القيمتين في ذاتهما. إنما الإشكال حول الكيفية والمواطن التي تُمارس بهما هاتان القيمتان.