الأربعاء، 8 يناير 2020

هل السياسة ينبغي أن تكون منزوعة الأخلاق؟

من الاعتقادات الشائعة التي أصبحت عند كثيرين من المسلمات التي لا تناقش، اعتقادهم أن أفضل منهج تدار فيها السياسة هو منهج الحيلة والمكر والبحث عن المصلحة بأي ثمن، فيوصف السياسي بالحنكة إذا قام بالتحايل والمكر ليصل إلى مبتغاه، ويشتهر القول ألا أخلاق في السياسة وأن الغاية تبرر الوسيلة. لكن قليل من يتساءل: هل هذا الاعتقاد صحيح؟ هل الحيلة والخداع هي أفضل طريقة تدار فيها السياسة؟ وهل السياسة الناجحة تقتضي التخلي عن القيم والأخلاق؟

قبل أن أجيب على هذه الأسئلة علينا أن نعرف أن هذه المعتقدات ليست جديدة وهي شائعة عند كل الأمم، لكن ثمة شخص واحد اشتهر بأنه المنظر الفكري لهذه المعتقدات وله الفضل بجعل هذه الأفكار تُداول وكأنها مسلمات، هذا الشخص هو الفيلسوف والسياسي الإيطالي مكيافيلي.
كتب مكيافيلي كتابه الأشهر الأمير -الذي أودع فيه هذه المعتقدات- في فترة كانت تهيمن عليها صراعات داخلية في فلورنسا، لذلك يعتقد كثيرون أن هذا الكتاب لا يعبر عن فكر مكيافيلي الحقيقي فثمة قراءات مختلفة تستند على كتاب آخر غير الأمير تدل على أن النظام الجمهوري العادل هو النظام الذي يقترحه مكيافيلي كنظام صالح، وليس النظام اللاأخلاقي الذي ينتهج الحيلة والخديعة والعنف كما يوحي إليه كتاب الأمير. ليس هذا مايهمني لكن أردت فقط أن أشير إلى المرجعية الفكرية التي تستند عليها تلك الاعتقادات، الآن لنعد إلى السؤال الذي طرحناه؟ هل أفضل طريقة تدار فيها السياسة هي الطريقة التي تفصل الأخلاق والقيم عن السياسة؟

لا أريد نقض هذه الفكرة بالاستناد على الأخلاق أو الدين، بمعنى أني لن أرفض هذا المعتقد لأنه لا أخلاقي أو أنه يعارض الدين، بل سأنقضه لأني أعتبر استبعاد الأخلاق عن السياسة من ناحية مصلحية بحتة ضارا بالممارسة السياسية نفسها. فإذا كانت السياسة تهدف في المقام الأول إلى البحث عن المصلحة فإن المصلحة في نهاية الأمر تصلنا بالأخلاق ولا تفصلنا عنها.
  ثمة رؤيتان حول علاقة الأخلاق بالسياسة، الأولى آنية وقاصرة والأخرى بعيدة المدى وثاقبة. فمن كانت رؤيته قاصرة سينظر إلى السياسة من منظار الأحداث الراهنة فقط ومن هنا يأتي تنظيره غالبا مستبعدا الاخلاق عن السياسة ومعتبرا الحيلة والخديعة ممارسات نافعة، أما الرؤية الثاقبة التي تتجاوز نظرتها الزمن الراهن فإنها ستعتبر الأخلاق ضامنا لنجاح الأنظمة والسياسات. من هنا نعود إلى مكيافيلي ونفهم لماذا اختلف مكيافيلي في الأمير عنه في الكتابات الأخرى. والجواب أن تنظيره في الأمير كان قاصرا على حقبة معينة وتخص ظروفا بعينها، لكن حين أراد أن ينظّر لأفضل الأنظمة وأكثرها استقرارا وديمومة اضطر إلى الاعتراف أن أفضلها تلك الأنظمة التي تعتمد على علاقة تصلاحية مع شعوبها وتقوم أسسها على العدالة، أي تلك التي تكون متسمة بالأخلاق. وبعيدا عن مكيافيلي نجد أن التاريخ أيضا لا يفتأ يقدم لنا الدلائل على هذه الحقيقة، فالسياسات والأنظمة التي تتحرى العدل وتحارب الظلم هي أكثر نجاحا على المستوى البعيد من نظيرتها التي تقوم على القهر والبطش. وهذا رأي كثير من عقلاء التاريخ فابن تيمية يروي: أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة. ولابن خلدون في مقدمته فصل شهير سماه: فصلٌ في أن الظلم مؤذن بخراب العمران.

وإسقاطا على اللحظة الراهنة كثر الحديث مؤخرا حول تعزية حركة حماس المستفزة للمجرم قاسم سليماني وحضور بعض قادتها جنازته في إيران وتسميتهم له بالشهيد مع علمهم أنه مسؤول مباشر عن قتل وتهجير آلاف السوريين والعراقيين. لن أشطح بعيدا في الموضوع لكن سأتحدث عن نقطة واحدة مرتبطة بما أطرحه. فالمبررون لما فعلته حماس يتذرعون بقولهم أن هذه أفعال تقتضيها المصلحة، والسياسة ليست محل الأخلاق كما يدعون. لكن ما أزعمه أن حركة حماس خالفت حتى مصلحتها، فالارتماء في الحضن الإيراني بهذا الشكل يعني التخلي عن الحاضنة الشعبية الأكبر الممثلة بجمهور الأمة المتضرر في مجمله من سياسات النظام الإيراني. ماذا لو سقط النظام الإيراني، أو توقف عن دعم حماس؟ سؤال بسيط ولكنه وارد جدا ينبئك عن قصر النظر الذي يتمتع به قادة حماس. والجواب: ستخسر حينها حماس فتات الدعم الذي تقدمه إيران وتخسر أيضا الأمةَ التي استفزتها سياساتها وهذا لعمري هو الخسران المبين.
هذا إذن أحد الأمثلة التي تبين تهافت المقولة التي ترى أن المصالح السياسية تقتضي استبعاد الأخلاق عن مجال السياسة على الإطلاق.
بقي أخيرا أن أنبه على أن هذا الرد ينطلق من فكرة التماشي مع المقولات التي يُرد عليها وليس الموافقة عليها والإيمان بها، وإلا فإن المبادئ الأخلاقية وبالتأكيد الدينية هي الأساس الذي يجب أن نراعيه دائما في السياسة فضلا عن غيرها وليست المصلحة هي محركنا الأول، لكن أردت أن أبين أنه حتى مع التنزل لهذا القول نجد أن المصلحة تقتضي غالبا وعلى المدى البعيد مراعاة القيم والأخلاق لا نبذها.