الأربعاء، 20 فبراير 2019

قصور الاستشراق منهج في نقد العلم الحداثي

قصور الاستشراق منهج في نقد في العلم الحداثي كتاب المفكر الفلسطيني الأصل وائل حلاق أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولمبيا .صدر الكتاب في أواخر العام الميلادي الفائت من الشبكة العربية للأبحاث والنشر وبترجمة بارعة تستحق الشكر من الدكتور عمرو عثمان مترجم الدولة المستحيلة لنفس المؤلف. ينطلق وائل حلاق في كتابه هذا من نقد كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد نقدا لاذعا لا يعرف الرأفة  يستحوذ هذا النقد على أغلب أجزاء الكتاب الأولى لكن رغم هذا لم يكن نقد سعيد هو الغرض الأساسي من الكتاب لكن وائل حلاق استخدم كتاب الاستشراق كذريعة لنقد المشروع الحداثي ككل.
يبدأ حلاق في سرد المآخذ المنهجية التي وقع فيها إدوارد سعيد ويذكرنا قبل هذا بأن تخصص سعيد كناقد أدبي ربما أفقده الحس التاريخي الذي يتطلبه تناول موضوع من هذا النوع.
من الإشكاليات الكبيرة التي وقع فيها سعيد أنه نظر إلى الاستشراق كخطاب عابر للتاريخ لا يتأسس على أرضية صلبة ومحددة بل كان تأسيسه يرتكز على مجموعة نصوص لمؤلفين/ مستشرقين أفراد كانت لنصوصهم سمات خاصة ومتجانسة شكلت هذا الخطاب الاستشراقي. لم يدرك سعيد بحسب حلاق الجذور الحقيقية للاستشراق فاعتبر أن مجرد تناول كمية كثيفة من النصوص كفيل بأن يكشف بنية الاستشراق وحقيقته . وبتوظيف مفهوم فوكو  للخطاب وعلاقته بالسلطة بنى إدوارد سعيد أطروحته كاملة على هذا الأساس.
أول إشكالية نتجت عن هذا الطرح هي أن ادوارد سعيد صبغ جميع المستشرقين  صبغة واحدة، إن لفظة مستشرق في طرح سعيد تشمل ايسخيلوس اليوناني مرورا بدانتي ووصولا إلى برنارد لويس في ذات المستوىيعتقد حلاق أن هذا الخلل كان أثرا ناتجا عن خطأين منهجيين وقع فيهما سعيد.
أولهما غياب نظرية واضحة للمؤلف، مع أن ادوارد سعيد ذكر أنه يخالف فوكو في نظرته للمؤلف باعتباره مسلوب الإرادة وخاضعا خضوعا تاما للخطاب السائد، وأكد مراعاته للبصمة المحددة لأفراد المؤلفين . لكنه عمليا وفي ثنايا طرحه يختفي هذا التنظير فيصبح المستشرقون شكلا واحدا لا خصوصية لهم فالمؤلف ميت ومن يتحدث هو خطاب تشكل وفق علاقات القوة . يذكر حلاق أن سعيدا اضطر إلى هذا التعميم المخل بسبب افتقاره إلى نظرية فوقية ناظمة ‏يمكنها أن تستوعب تلك التمايزات والاختلافات بين أفراد المستشرقين .
الخطأ المنهجي الثاني الذي نتج عنه هذا التعميم  كان بسبب عدم وضع الاستشراق في مكانه الصحيح، لم يلتفت سعيد للأسباب القبلية التي جعلت الاستشراق ممكنا من الأصل، بمعنى آخر لم يلتفت سعيد إلى التربة الحداثية التي نبت فيها الاستشراق. لذلك عمل سعيد على ديمومة الاستشراق ولا نهائيته باعتباره خطابا يشتبك مع السلطة وتُنتج من خلاله تصويرات مسيئة ومشوِّهة للشرق من أجل الهيمنة عليه . يعتبر حلاق هذا التفسير السياسي سطحي وقاصر عن تفسير  السبب الحقيقي لبزوغ الاستشراق  كظاهرة استثنائية حديثة لم يعرفها التاريخ الانساني من قبل. يتساءل حلاق لماذا لم يظهر الاستشراق في التاريخ الإسلامي مثلا أو الصيني رغم الهيمنة العسكرية والاقتصادية والسياسية ‏التي كانت لهما. يقرر حلاق أن المشروع الحداثي الغربي هو الأساس الذي تفرع منه حقل الاستشراق مثلما تفرعت منه الحقول العلمية الأخرى، ومن الخلل اتهام الفرع دون النظر إلى الأصل الذي انبثق منه .
يأخذ حلاق على سعيد إيمانه بالقيم العلمانية والإنسانوية رغم نقده للاستشراق وللظاهرة الكولونيالية. بحسب حلاق لم يكن إيمان سعيد هذا إشكالا ثانويا لا تأثير له، لكنه في الواقع تسبب بأكثر من خلل منهجي أثر على أطروحة سعيد بكاملها. فبمجرد تناول الاستشراق في معزل عن المفاهيم الحداثية التي بُني عليها يُعتبر تناقضا فادحا لا مبرر له، وإن كان سعيد يشير أحيانا إلى أثر الثقافة الغربية في نشأة الاستعمار لكن تظل هذه الإشارة عابرة وعائمة بحسب حلاق  خصوصا وأن سعيدا يفصح في مواضع أخرى بتبنيه القيمَ العلمانيه والليبرالية المنبثقة من فكر الأنوار ومقته الافكارَ القائمة على مفاهيم دينية وروحية.
‏فيعتبر سعيد أن كل تصوير للشرق لا يوافق القيم التي يؤمن بها يعتبر تصويرا خاطئا ومسيئا للشرق. فمثلا حين نظر المستشرقُ الفرنسي ماسينيون إلى الشرق نظرة إيجابية بل وإعجاب شديد حيث وصفه بالشرق المتدين القائم على مفاهيم روحانية، اعتبر سعيدٌ هذا الوصف مسيئا للشرق ومنطلقا من نظرة دونية إليه. ‏تبرز هنا مشكلة أخرى لم يذكرها وائل حلاق في كتابه ولكن تحدث عنها نقاد آخرون منهم صادق جلال العظم، فسعيد لم يحدد أساسا الجوهر الحقيقي للشرق الذي يراه هو . بل إنه ينطلق من فرضية تقوم على أن كل تصوير للآخر هو بالضرورة إساءة تصوير، فبحسب سعيد “كل تصوّر يختلط حكما بأشياء كثيرة غير الحقيقة ، مع العلم بأن الحقيقة نفسها هي تصور ليس إلا” ! من هنا يحق لنا أن نتساءل: ألا يعني هذا التبرير لنظرة المستشرقين إلى الشرق وإلى الإنسان الشرقي باعتبارها نتيجة حتمية لكل عملية تصور للآخر؟!.
نظر سعيد إلى الاستشراق كحقل أكاديمي شذ عن الحقول الأكاديمية الأخرى وبالتالي عن القيم الليبرالية والعلمانية . على عكسه يعتبر حلاق كل الحقول الأكاديمية الأخرى متورطة بذات المفاهيم الاستعمارية التي يعمل من خلالها الاستشراق. فالعنف والإبادة الجماعية والاستعمار والمشاكل البيئة كلها آثار ساهمت بها الأكاديميا الغربية وعملت على عقلنتها والتبرير لها. من هنا ينتقل حلاق إلى نقد النموذج المعرفي الذي يقوم عليه العلم الحداثي ككل، ذلك العلم الذي يتأسس بنيويا مع مفهوم السيطرة السيادية. هذه السيطرة التي عملت ابتداء على فصل القيمة عن الطبيعة. فبما أن الطبيعة مادة غاشمة وهامدة فيمكن أن يُتعامل معها دون قيد أخلاقي، أي يُتعامل معها كشيء يخضع دائما للفعل وللاستغلال والسيطرة دون مراعاة للبعد القيمي. نتج عن هذا التعامل ظهور مايسمى العلم الموضوعي المحايد في كل الحقول الأكاديمية -بما فيها حقل الاستشراق- هذه الحقول جعلت الباحث ينظر إلى الموضوع  -حتى لو كان هذا الموضوع مجتمعا إنسانيا - كما ينظر إلى مادة طبيعية يستغلها ويستعملها كما تستعمل الاشياء. 
ينتهي حلاق في فصله الأخير إلى فكرة إعادة صياغة ‏ الاستشراق فكما أن الاستشراق في السابق كان جزءا أصيلا من المشكلة فيمكن أن يكون جزءا من الحل ولكن بعد تأهيله وبنائه على أسس جديدة غير التي قام عليها قديما. ‏فنظرا لطبيعة الحقل الاستشراقي واشتباكه مع ثقافة الشرق وتراثه فبإمكانه تقديم مساهمة قيّمة للخروج المأزق الحداثي المادي بالاستفادة من الفلسفات الروحية والقوانين الأخلاقية التي تقوم عليها أسس الثقافة الشرقية.  
يوظف حلاق في أطروحته جهازا مفاهيميا ضخما يبدأه باقتراح نظرية جديدة للمؤلف تعالج قصور نظرية موت المؤلف التي عمل من خلالها إدوارد سعيد والتي عجزت عن تفسير التمايزات والاختلافات بين أفراد المستشرقين، ثم يموضع هذا المؤلف الجديد داخل نظرية النماذج وداخل مفهوم النطاقات المركزية والهامشية الذي يستعيره من كارل شميت، ويستفيد كذلك من مفهوم جون أوستن لشروط الملاءمة المنتجة لأفعال الكلام. ولا يبتعد كثيرا عن منهج فوكو الأركيولوجي في نظرته العمودية للخطابات التي تحفر في الترسبات الثقافية إلى أن تجد الأرضية المشتركة التي تنبثق منها شتى الخطابات. يفعل حلاق كل هذا داخل حبكة فكرية متقنة تُظهر الكتاب بشكل منهجي قوي ومتماسك. 
رغم أن وائل حلاق يستعير كثيرا من أفكار ونظريات نقاد مابعد الحداثة، إلا أن منطلقاته الفكرية تختلف نوعا ما عن المنطلق العدمي الذي يسير عليه أولئك النقاد. فحلاق مفكر أخلاقي في الأساس وهو لا يرفض الدين بالكلية، بل إنه يرى أن الدين بما فيه من روحانيات وأخلاقيات قد يكون الحل المناسب للخروج من المنطق الحداثي المادي الذي يهيمن علينا اليوم. وهذا بالتحديد سبب إعجابه بالشريعة الإسلامية -وهو مسيحي الديانة، فهو يعتقد أن الشريعة الإسلامية تنطوي في بنيتها على معايير أخلاقية وروحية تضبط حركة الأفراد والجماعات والمؤسسات. بعكس الحضارة الغربية المعاصرة التي تسيّرها مفاهيم الهيمنة والمصلحة والربح دون قيود أخلاقية ضابطة.