الاثنين، 20 يونيو 2022

المعرفة الدينية والمعرفة الفلسفية

 من أهم ما يميز المعرفة الدينية عن المعرفة الفلسفية، أن المعرفة الدينية تعتمد على فكرة الامتداد، بينما المعرفة الفلسفية تعتمد على الانقطاع. والامتداد مذهب أوثق وأضبط للمعرفة من الانقطاع. وأعني بالامتداد فكرة أن يكون للقول أصل وسلف معتمد، فلا يقبل القول المبتدع الذي يخالف الأصول المعتمدة.. والمعرفة الفلسفية لا ترى هذا المنهج، بل هي تفضل منهج الانقطاع. حيث المتفلسف لا يعتمد على قول من سبقوه، بل كثيرا ما ترسخ الأدبيات الفلسفية فكرة الانفصال ونقد الموروث، بل والشك في كل معرفة سابقة والبداية من نقطة الصفر. إذ يتوهم الفرد تحت تأثير هذه الأدبيات أنه قادر وحده - باستخدام عقله - على حل كل المشكلات والوصول إلى معرفة يقينية غير مسبوقة. والنتيجة أن كل متفلسف ينقض قول من سبقه ويبين تهافته وقصوره، لذلك تكاد لا تجد علما من العلوم، فيه هذا القدر من الاختلاف والاضطراب كما هو موجود في الفلسفة.. 


وهذا ما يجعل الرؤية الدينية أحكم من تلك الرؤية الفلسفية، فالمعرفة الدينية تدرك قصور الوعي الفردي وتعي أهمية التكاتف المعرفي. فالعقل الإنساني ككل عقل قاصر عن إدراك بعض المسائل فكيف بعقل الفرد الواحد. لذلك -وعلى عكس الفلاسفة- أدرك العلماء المسلمون هذي الإشكالية ونجحوا ببراعة قل نظيرها في ترسيخ مبدأ الامتداد المعرفي وذم منهج الابتداع والانقطاع.. فعلم الحديث مثلا -وهو العلم الذي لم تعرف مثله الأمم الأخرى- هو علم معني بفحص الاسانيد التي نقلت إلينا أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، والسند سمي كذلك لأن كل راو يسند حديثه إلى راو آخر حتى يكتمل السند ويتصل.. فيتبين هنا أهمية التسلسل في نقل العلوم، لذلك يروى عن ابن المبارك رحمه الله أنه قال: "الإسناد من‬⁩ ⁦‪‬⁩ ⁦‪الدين‬⁩، ولولا ⁦‪الإسناد‬⁩ لقال ⁦‪من‬⁩ شاء ما شاء".  وكذلك أصّل العلماء لمفهوم الإجماع. والإجماع يعارض بوضوح المنهج الفلسفي الانقطاعي، فالاجماع قائم على قوة الاعتبار للقول الجماعي على الفردي. فاتفاق العلماء المسلمين على حكم شرعي، له الافضلية على قول الفرد الواحد منهم.. وبهذه المفاهيم وغيرها يتضح التمايز بين الرؤية الدينية التي تعتمد مبدأ الامتداد، والرؤية الفلسفية القائمة على مبدأ الانقطاع، وبالتالي يتضح أيهما أقدر على ضبط المعرفة وحفظها من التشتت والاضطراب.

ابن تيمية والاستعلاء الإيماني

 كل من يقرأ لابن تيمية بعين فاحصة، خصوصا في ردوده على الفلاسفة والمتكلمين، لا بد أن يلاحظ فيه ظاهرة مميزة، ظاهرة قد تجدها عند غيره، ولكن ليس بالبروز الذي تجده عند شيخ الإسلام. ألا وهي ظاهرة: الاستعلاء الإيماني. حين يكتب ابن تيمية في سياق الرد على المخالفين، يكتب وهو في مزاج المستعلي بالحق الذي معه، الحق الذي هو الكتاب والسنة.. فلا يهاب خصومه ولا يداريهم، ولا تدهشه أقوالهم ومصطلحاتهم التي تبدو لمن يجهلها فخمة هائلة.. فكل ما سوى الكتاب والسنة يضعه ابن تيمية تحت مبضع نقده الحاد، الذي قلما يسلم منه المخالف. حين يكتب ابن تيمية في الرد على كبار الفلاسفة، كابن سينا وابن وشد بل وحتى أرسطو، فهو يكتب وهو في مقام المعتلي عليهم، لا تهيبه أقوالهم ومصطلحاتهم، فلا يمرر لهم قولا ولا يسلّم له رأيا دون أن يفحصه ويفككه ويبين مافيه من خلل وفساد.. 

يعظّم الفلاسفة والمتكلمون ما لديهم من عقليات، ويجعلونها هي الأصل الذي ينطلقون منه.. بل وصل الأمر ببعض فلاسفة الإسلام أن جعلوا  الشريعة في موضع أدنى من الحكمة والفلسفة التي لديهم، ويبررون هذا بأن الشريعة جاءت للعوام وليست هي مصيبة لذات الحق، الحق الذي لا يعرفه سوى نخبة قليلة من خواص أهل العقل والبرهان، كما يصرح بهذا ابن سينا في رسالته الأضحوية، أو ابن رشد في فصل المقال. حين رأى ابن تيمية هذا التباهي والغرور، وهذا الاحتكار المتعسف للعقل، صال عليهم صولته الشهيرة في كتابه الباذخ درء التعارض بين العقل والنقل.. فبين بحذاقة، أن ما يدعونه من عقليات قطعية هي مسائل يطالها كثير من الخلل والفساد، وأن الشرع / النقل : هو أولى بموافقة العقل الصحيح، وليس ما يدعونه من عقليات التي هي عند التحقيق جهليات. انظره وهو يقول بنَفَس الواثق: "إن كل من أثبت ما أثبته الرسول ونفى ما نفاه، كان أولى بالمعقول الصريح، كما كان أولى بالمنقول الصحيح، وأن من خالف صحيح المنقول فقد خالف أيضا صريح المعقول." ( الدرء 1 / 57  ). وفي موضع آخر من الدرء يقول: "فمن تبحّر في المعقولات، وميز بين البينات والشبهات، تبين له أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول، وكلما عظمت معرفة الرجل بذلك، عظمت موافقته للرسول."


هذه الثقة في الوحي، جعلت شيخ الإسلام ينظر إلى كل ما سوى الكتاب والسنة نظرة الفاحص والناقد. من هنا كان شيخ الإسلام من أوائل من برعوا في نقد المنطق، هذا المنطق الأرسطي الذي انبهر به كبار الفلاسفة والمتكلمون.. فلم يغتر ابن تيمية بما قيل عن قوة المنطق وإحكامه.. لذلك كشف ببراعة قل نظيرها، عن كثير من الخلل في أصل مباحث المنطق، ووجه نقودات محكمة سبق بها كثير من فلاسفة الغرب المحدثين من ديكارت وبيكون وغيره.. هذا الاستعلاء الإيماني عند شيخ الإسلام، وهذه الثقة في الكتاب والسنة وعدم التسليم بكل ما يخالفهما؛ نتج عنه تراث نقدي هائل، يدرّس الآن في أرقى جامعات العالم.. ولا زال هناك متخصصون من الشرق والغرب إلى اليوم يحفرون في تراث هذا الرجل ويبينون مواطن عبقريته وذكائه.


هذه السمة في ابن تيمية، يجب أن يتحلى بها كل مسلم اليوم. يجب على المسلم أن يثق بعقيدته ويتشرف بها ولا يخجل من شيء فيها.. هذه العقيدة هي وحي منزل، وشريعة إلهية هي آخر الشرائع وأحسنها.  ومن العجب أن تجد الإنسان الغربي اليوم، يفخر بعقيدته ويروج لها ولا يستحي منها، مع أن عقيدته من أفسد العقائد وأحطها، عقيدة تنتشر فيها الإباحية ويشيع فيها الانحلال، عقيدة تروج لزواج الرجل من الرجل والمرأة من المرأة، بل هي تناقش حتى نكاح الإنسان مع الحيوانات.. تخيل أن ثمة من يتأوّل الشرع لأجل أن يوافق هذه العقائد الفاسدة.. بل منهم من ترك الشرع بالكلية واعتنق هذه المذاهب.. وأحسب أن أمثال هؤلاء لا ينقصهم نقاش جدلي يدلهم على الحق، ولا رداً على شبهة يُظن أنها سبب انحرافهم. مشكلتهم في المقام الأول هي استلاب نفسي واهتزار في الثقة.. ولو استحضر هؤلاء فكرة أنهم يتبعون وحيا منزلا وشريعة إلهية هي أعظم الشرائع، لزال عنهم هذا الضعف ولتبين لهم:  "أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول" كما قال شيخ الإسلام رحمه الله.

الجمعة، 17 يونيو 2022

لمحة حول كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام

 لو قُدر لقارئ أن يطلع على كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دون أن ينظر إلى اسم مؤلفه، لظن أن هذا الكتاب قام به مجموعة متخصصين، أو دائرة معارف كاملة، ويستحيل أن يطرأ عليه أن هذا الكتاب قام به رجل واحد.. فالكتاب عظيم ليس في حجمه فقط ولكن في قيمته ومضمونه. ولا عجب فمؤلفه كما يقال عكف عليه ما يقارب 40 سنه وهو يؤلفه، والمؤلف هو المؤرخ العراقي النابغة جواد علي، حصل على شهادة الدكتوراة من جامعه هامبورغ بألمانيا.. وله مؤلفات كثيرة أشهرها بلا شك موسوعته هذه: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 10 أجزاء.

يقال أن المؤرخين المعاصرين كانوا عالة على كتب المستشرقين في تاريخ العرب قبل الإسلام، حتى ألف جواد علي كتابه هذا فصار المستشرقون يعتمدون عليه.. وأكثر ما يميز هذا الكتاب عن غيره هي الموارد المتنوعة التي اعتمد عليها المؤلف في كتابه، فلم يعتمد على الموارد الكلاسيكية التي تحدثت عن تاريخ الجاهلية، بل نقب في كل ما يمكن أن يمت لهذه الحقبة بصلة، فاطلع على كتابات المستشرقين واكتشافاتهم الحديثة، من آثار ونقوش ونصوص أثرية، وبحث في اللغات القديمة التي ورد فيها ذكر العرب أو بعض القبائل والممالك العربية.. هذا بالإضافة إلى اطلاعه الواسع على المصادر الكلاسيكية وأهمها كما يذكر المؤلف القرآن والسنة، وما ذكر فيهما من أمر الجاهلية وهما -كما يؤكد المؤلف- أصح وأقدم مصدرين إسلاميين يمكن أن نعرف منهما حال هذه الحقبة، بالإضافة إلى كتب التاريخ والأدب وأيضا التفسير، ومن نظر إلى المراجع التي أشار إليها المؤلف، سيلفت نظره مقدار الجهد الكبير الذي بذله المؤلف في التنقيب عن هذا التراث الجاهلي .. ومع هذا البحث الواسع وكثرة المرويات التاريخية، يتميز المؤلف بمنهجه العلمي الرصين، فلا يأخذ الروايات مأخذ التسليم مهما بدت شائعة دون أن يفحصها وينقدها.. لذلك فالمؤلف كثيرا ما يطرح آراء جديدة يخالف فيها ما هو شائع في كتب التاريخ، ولا يسلم المؤلف إلا لما أدى إليه اجتهاده كما أنه كثيرا ما ينتقد آراء المستشرقين ويرجح عليها آراء أخرى.. فالمصنف هو مؤرخ ناقد، وليست مجرد إخباري يسرد كل ما اطلع عليه دون تمحيص، كما يفعل كثيرون.


كانت الحقبة الجاهلية بالنسبة لي شخصيا مرحلة ضبابية، لا أعرف عنها سوى آراء تعميمية مبتسرة، لذلك كنت متشوقا أن أقرأ كتابا موسعا عن هذه الحقبة المهمة في تاريخنا. ومن حسن حظي أن اخترت هذا الكتاب.. يشير المؤلف في البداية إلى نظرة مغلوطة عن تاريخ الجاهلية على اعتباره مرحلة جهل لا حضارة فيها ولا علم، ويذكر المؤلف أن هذا اللبس ربما وقع من لفظة الجاهلية نفسها، إذ ظن بعضهم أنها آتية من الجهل الذي هو ضد العلم.. ويرجح المؤلف أن مصطلح الجاهلية أتى بمعنى الجهل الذي هو السفه والتعصب والأنفة، ومنها قول عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلن أحد علينا …فنجهل فوق جهل الجاهلينا

أي لا يسفهن أحد علينا فنسفه عليه، ومنها قول الرسول عليه الصلاة والسلاة لأبي ذر رضي الله عنه : إنك امرؤ فيك جاهلية. حينما عير بلالا رضي الله عنه.. ولا تدل المواضع الذي ذُكرت فيها مصطلح الجاهلية أنها تعني الجهل الذي هو عدم العلم، ويؤكد المؤلف أن الحقبة الجاهلية فيها حضارة وعلم وأدب، وهي لازالت مرحلة تحتاج إلى مزيد دراسات وأبحاث، ولا زالت الاكتشافات الحديثة تمدنا بآثار عربية تؤكد لنا على أن حضارة العرب حضارة عريقة تستحق الدراسة.

يستفتح المؤلف أول آرائه الطريفة في ذكر اسم العرب نفسه، من أين جاء وماهو مصدر التسمية.. لا يكتفي المؤلف كعادته بالآراء التقليدية، مثل : أن العرب من يعرب بن قحطان.. وأن حسان بن ثابت قال : 

تعلمتم من منطق الشيخ يعرب…أبينا فصرتم معربين ذوي نفر

أو لأنهم يعربون عن كلامهم أي يفصحون. وإن كان من منهجه ألا يجزم بخطأ مثل هذه الآراء لكنه ينقب في آراء أخرى غير مطروقه في التاريخ الإسلامي. فمثلا يمكن أن يُبحث عن اسم العرب في اللغات السامية القديمة، ثم يُرى متى أول تسمية وردت في هذه اللغات.. فوُجد أن أقدم لغة ورد فيها ذكر العرب هي اللغة الآشورية، في نص قديم يعود إلى أكثر من 800 ق.م  تقريبا، في أيام الملك شلمنصر الثالث. وهكذا اطلع المؤلف على بحوث علماء الساميات ودون الموارد التي ذُكر فيها اسم العرب أو بلاد العرب، فوجد أن لفظة العرب عند الاشوريين والبابليين القدماء وكذلك العبرانيين كانت تعني الأعراب، أي أهل البادية.. أما القبائل العربية المستقرة فكانت تسمى بأسمائها، ثم يخرج المؤلف برأيه الذي مفاده: أن إطلاق اسم العرب على الحضر والبدو هو إطلاق حديث نسبيا، أما في النصوص الأثرية القديمة فكان العرب أو "أرابو أو أرابي"، على اختلاف قراءة العرب في تلك اللغات، إنما كانت تشير إلى أهل البادية الرحل فقط. وحتى في النصوص العربية الجنوبية كانت لفظة "اعرب" تعني الأعراب أما أهل المدن والقبائل اليمنية سبأ وهمدان وحمير.. فكانوا يسمون بأسمائهم. انظر الكتاب ( 14 / 1 )


لا يمكن مراجعة كل مضامين الكتاب، فالكتاب ضخم، لذلك سأكتب لمحة بسيطة أضيء فيها على بعض مواضيع الكتاب لا أن أشير إلى كل موضوع تناوله، فهذا يحتاج إلى عشرات الصفحات.. 

الكتاب في كل جزء منه تقريبا موضوع خاص، ففي الكتاب الأول تناول مسألة أصل العرب وأراضيهم وطبيعتها، ثم عن طبقات العرب ( البائدة والعاربة والمستعربة ) وإن كان يتحفظ على هذه التسميات خصوصا العاربة والمستعربة أو عدنان وقحطان،  ويطرح بعض الآراء الجريئة في هذا.. ويسرد في هذا الجزء أنساب العرب. ثم الكتابان الثاني والثالث عن ممالك العرب، سواء الجنوبية أو الشمالية.. وأشهر الممالك الشمالية كما هو معروف مملكتي المناذرة والغساسنة.. وفي الجزء الرابع عن مكة ويثرب والطائف، والتي هي كما هو معلوم لا تعتبر ممالك إنما لها نمط خاص من الحكم هو أقرب إلى الحكم الشوري، حيث يجتمع سادات القبائل ويتشاورون ويقررون، فهي تختلف عن الممالك العربية الأخرى التي تعتمد على حكم الفرد.

وفي الأجزاء الأخرى عن الحياة الدينية في الجاهلية، عن أشهر أصنامهم، وعن تاريخ الكعبة وعن جماعة الحنفاء، وعن اليهود والنصارى ووجودهم في جزيرة العرب. ثم عن الحياة الاقتصادية، وتجارة العرب وأشهرها تجارة قريش، وعن نمط تجارتهم.. وأيضا عن الحياة اليومية وعن ثقافة العرب وأشهر أكلاتهم وألعابهم، ومن الطريف أني وجدت اللعبة البدوية الشهيرة "عظيم ضاح" التي يلعبها صبيان البدو حتى عهد قريب، كانت معروفة في الجاهلية، بل ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعبها وهو صغير، ولكن كانت تسمى "عظيم وضاح"، ووصلتنا محرفة إلى عظيم ضاح وأحيانا عظيم ضاع.


وثمة مباحث أخرى طريفة عن لغات العرب ولهجاتهم، وكيف سادت لغة القرآن.. والمؤلف له آراء حول هذا الموضوع، فهو يخالف الرأي المشهور الذي يقول: أن هذه اللغة الفصحى السائدة الآن والتي هي لغة القرآن، هي لغة قريش، لأن قريش أفصح العرب. وفي سوق عكاظ تناشد العرب الشعر الجاهلي بلسان قريش. وهو يخالف هذا، وليس شرطا أن نوافقه في رأيه ولكن يبقى أنه رأي يستحق التوقف عنده، حيث يرى أن مملكتي الحيرة والغساسنة هما من ساهما بشيوع هذا اللسان الفصيح، لأنهما كانا موؤلا لكثير من الشعراء الجاهليين المشهورين، وأيضا أن هذا اللسان هو لسان العرب الشمال عموما، والذي بقي منه ليس لهجة واحدة إنما خليط من لهجات العرب العدنانية.. تجد تفاصيل هذا الرأي في الجزء الثامن ص 562 وما بعدها من فصول. 


ومن المباحث المشوقة مبحث الخط العربي، كيف نشأ، وكيف تطور، وما أقدم نص عربي مكتوب بهذا الأحرف التي نعرفها.. واختلاف هذا الخط العربي عن خط المسند الذي تكتب به عرب اليمن.

ومن المرويات التي تروق لي شخصيا، هي الرواية التي تقول أن القلم العربي دخل إلى العرب بفضل رجل من دومة الجندل ( ودومة هي الجوف ديرتنا 😁 ) ، فيروى: أن بشر بن عبدالمملك أخو أكيدر بن عبدالملك الكندي حاكم دومة الجندل، تعلم الكتابة من أهل الأنبار، وخرج إلى مكة وتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية، وعلم جماعة من أهل مكة الكتابة، فكثر من يكتب بمكة من قريش بفضله.


وفي الكتاب فصول عن أيام العرب وغزواتهم، وهي من أمتع الفصول التي قرأتها.. وفيها قصص كثيرة تعزز من مبادئ الأخلاق وتعلي من أخلاق الشرف والشهامة، ففيها ذكر عن كرم العرب، ووفاءهم ، وشجاعتهم..

ونهاية الكتاب الثامن مخصص عن الأدب الجاهلي، بدأه بالقص ثم النثر والخطابة في الجاهليه، وأشهر الخطباء وعن أهمية الخطابة عند العرب.. ثم الكتاب التاسع كله عن الشعر الجاهلي، تكلم عن بداياته، ومن هو أول شاعر، وعن قضية المنحول منه، ولكن عرضه لقضية النحل مبتسر وكنت أتوقع أن يطيل فيها لأهميتها خصوصا عند جيل جواد علي ممن زامنوا الصخب الذي دار حول أطروحة طه حسين عن الشعر الجاهلي، ثم تكلم عن المعلقات وشعراء الصعاليك والشعراء المخضرمين.. والحقيقة أن كتابه المخصص عن الشعر هذا لم يكن بالشكل الذي تأملته، فمن بداية الكتاب وأنا أنتظر بشوق هذا الباب، فكنت أتوقع أن أجد فيه شيء عن موضوعات الشعر الجاهلي، وعن أثر البيئة على هذا الشعر، وعن جماليات الشعر الجاهلي وبيانه، ولكن لم أجد فيه مثل هذا الكلام الذوقي. ولكن ربما يُعذر جواد علي في هذا، فهو مؤرخ وليس ناقدا أدبيا، ومزاج المحقق غلب عليه عند تناول هذا الموضوع، وإن كان الموضوع هذا بالذات يحتاج تناوله إلى شيء من الذوق الفني..


وأما الكتاب العاشر والأخير فهو فهارس.. وهناك كتاب عنوانه تاريخ العرب في الإسلام، لم أطلعه عليه، كتب جواد علي جزءه الأول وربما كان ينوي إكماله ولكن وافته المنية.. رحم الله المؤرخ العراقي الكبير جواد علي، فكتابه هذا مما يمكن أن يفاخر به المعاصرون القدماء.. وليس مبالغة ما قيل فيه: أن تاريخ الجاهلية كان في مرحلة، وبعد كتاب المفصل صار في مرحلة أخرى..

هذه لمحة خاطفة كتبتها على عجل، والكتاب يستحق أطول من هذه المراجعة .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد .