حين تكثر القراءات تزداد الشكوك وتتضخم الأسئلة، يلهث القارئ باحثا عن أجوبة وما إن يقترب حتى تتبدى له أسئلة أخرى يقف حائرا أمامها، ومن هنا ينشأ الاضطراب والتشتت، هذه الدوامة اللامنتهية يمكن تحاشيها لو ضبط القارئ من الأساس مفهومه للقراءة.
إن هذه الإشكالية تنبع في البداية من فهم خاطئ لعملية القراءة باعتبارها عملية سحرية قادرة على مواجهة جميع الشكوك وحل جميع الملابسات.
القراءة في الحقيقة ليست كذلك بل هي مجرد تدريب فكري مهمته الأولى صقل العقل وتعميق الوعي وتوسيع المعرفة، أما من يفهم القراءة كأداة تكشف الحقائق وتبحث عن اليقين فإنه قطعا سيكون عرضة للأفكار المتناقضة وبالتالي عرضة للشك الدائم والحيرة اللامنتهية.
علينا بدلا عن هذا أن نقرأ الكتب قراءة شاعرية، في الشعر نحن لا نلتفت إلى المضمون الفكري للقصيدة ولا يهمنا عقيدة الشاعر وتوجهه، فالغرض من قراءتنا للشعر هو استقصاء الجمال والبحث عن المعنى البديع والمطرب بعيدا غلط الفكرة وصوابها. هذه القراءة الشاعرية يمكن أن نقرأ بها الكتب الفكرية، حين نركز لا على الأفكار في ذاتها ولكن على المناهج والأساليب التي أبدعت هذه الأفكار. أن نقتبس الأدوات الفكرية التي بنى بها المفكر قناعاته، من غير أن نقتبس ذات القناعات. بمعنى آخر إن ما يهمنا طريقة تفكير المؤلف لا أفكاره.
فمثلا حين نقرأ للجابري ليس شرطا أن نقتنع بتحليلاته النهائية للعقل العربي، بل إن النظر إلى النتائج التي خلص إليها الجابري قد يجعلنا نحكم عليه بالتهافت، فتقسيمه التعسفي للعقل العربي وتقديمه العقل البرهاني كحل سحري والقول بالقطيعة المعرفية بين المغرب والمشرق كلها دعاوى نُقد من أجلها الجابري بشدة، لكن برأيي لا تكمن أهمية الجابري في هذه الأحكام والتقريرات بل في منهجه غير المسبوق في دراسته للتراث، وفي النظريات الحديثة التي استدخلها في بحثه بطريقة منسجمة وغير متكلفة، وأيضا في الجهاز المفاهيمي الذي وظفه في خدمة مشروعه، هنا تكمن عبقرية الجابري وهنا يمكن الاستفادة منه.
إن ضبط مفهوم القراءة على هذه الشاكلة يجعلنا في مأمن من تشعب الأفكار والمعتقدات وتشتتها. أما الشكوك التي تعترضنا من فترة إلى أخرى فلا بأس أن نركنها جانبا، فبعض الشكوك لا نكون مؤهلين لمواجهتها وقد يأتي يوم ونكون كذلك. بل ربما من المفيد أن نعتاد على فكرة التعايش مع بعض الشكوك، فليس لكل سؤال جواب قاطع ومريح، وعملية البحث عن أجوبة لكل سؤال متشكك عملية مرهقة وغير منتهية، لا يوجد في رأيي من يخلو من بعض الشكوك والارتياب بل إن جوهر الإيمان يقتضي أن يكون ثمة أمر مغيب عنا، ومن هنا يكون امتحان الإيمان الحقيقي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق